اطلعت على الفيديو الذي نشرته طبيبة أمراض النساء والتوليد، وسام شعيب، التي أثارت جدلاً واسعا على وسائل التواصل الاجتماعي بعد نشرها فيديو عبر الفيسبوك، تحدثت فيه عن حالات حمل غير شرعي، تستقبلها في المستشفى الذي تعمل فيه. من المؤكد أن هناك عدة مخالفات ارتكبتها الطبيبة الشابة في الفيديو، في مقدمتها المخالفة المتعلقة بحيثية وضعها كطبيبة مختصة، لكن هل فيما قالته إفشاء لأسرار مرضى تعالجهم؟ وهل ما قالته يندرج في سياق حرية التعبير، يستدعي إلقاء القبض عليها، أم أن ما قالته يستدعي تحقيقا تجريه السلطات لمعرفة ما إذا كانت تدلي ببيانات كاذبة، سواء كان الهدف من نشر هذه البيانات التشهير بالسمعة أو تكدير السلم العام؟ وبغض النظر عن التكييف القانوني للاتهامات التي يمكن أن توجه للطبيبة وللإجراءات القانونية التي يمكن أن تُتخذ ضدها استنادا إلى هذه الاتهامات، إلا أن ما ارتكبته الطبيبة من انتهاكات لأخلاقيات مهنتها، وأيضا رود الفعل عما طرحته، وانقسام الرأي بخصوص الموقف مما فعلته يشير إلى مشكلات أعمق في طريقة تفكير المجتمع في مسألة تُعد من أكثر المسائل ارتباطاً بمفهوم الشرف وبالأخلاق استناداً إلى تصور شائع يربط بين الأخلاق والدين ويربط بينها وبين أساليب التربية.
أخلاقيات المهنة والأخلاق العامة
بداية، اتوقف عند ما قالته الطبيبة الشابة لتبرير ما أقدمت عليه. فقد أكدت الطبيبة أكدت أنها لم تذكر أي أسماء أو تفاصيل شخصية في الفيديو، وأشارت إلى أن هدفها كان تقديم "نصائح طبية"، ولا نعرف ما هي تلك النصائح الطبية التي قدمتها ونصائح أخرى "توعوية للمجتمع"، تعكس أن الطبيبة نصبت من نفسها وصية على أساليب التربية الإيجابية التي وجهت إليها انتقادات مباشرة بل وحرضت على استخدام الشدة والعنف البدني في تربية الإناث، تعبر عن آرائها الشخصية وتقع خارج نطاق اختصاصها كطبيبة، التي قالت إن الهدف من الفيديو هو "تسليط الضوء على مشكلة اجتماعية خطيرة، وأنها لم تقصد الإساءة أو انتهاك الخصوصية، مؤكدة أنها ستتعاون مع التحقيقات لتوضيح موقفها"، لكن من أين لهذه الطبيبة أن تقرر ما إذا كنا بصدد مشكلة اجتماعية بالفعل أم لا؟
من وجهة نظر البحث العلمي، ارتكبت الطبيبة خطأ بالغ لا يليق بطبيبة تفوقت في التعليم وتخرجت في كلية الطب، لكنه خطأ يعكس خللاً أعمق في نظام تعليمي غير مؤسس على تدريس المنطق كعلم وكطريقة في التفكير. أحدد الأسس في المنطق تقضي بعدم جواز إصدار أحكام عامة استناداً إلى وقائع جزئية بفرض تحققها. هناك خلل آخر مصدره غياب الفلسفة كمقرر دراسي لطلبة الأقسام العلمية في التعليم ما قبل الجامعي وأيضا في التعليم الجامعي إلا كمادة تخصص، وهذا خلل لا ينتج إلا عن مجتمع وعن نخبة لا يدركان أهمية الفلسفة ودراستها بالنسبة للحياة العامة، بل لا ترى قيمة أصلاً في تدريسها، ودعوات لإلغاء الأقسام التي تدرس الفلسفة في الجامعات المصرية باعتبار أنها علم لا ينفع وليست له أي قيمة عملية. هذه النظرة للفلسفة وقيمتها كان لها تأثير بالغ على نظرتنا لمسألة الأخلاق العامة وكذلك للأخلاقيات المهنية، وهي نظرة قاصرة بالتأكيد.
هذا القصور في المنظور الفلسفي لمسألة الأخلاق، أدى إلى حصر مسألة الأخلاق في قضايا الشرف التي تمس العلاقات غير المشروعة وأحدثت حالة من الضبابية والارتباك فيما يخص أخلاقيات المهنة، ولا ينطبق هذا على مهنة الطب فقط وإنما يتصل بكثير من المهن، وسننتظر نتيجة التحقيقات لمعرفة ما هي الانتهاكات التي ارتكبتها الطبيبة لأخلاقيات مهنة الطب ولا تشكله من اعتداء على المبادئ العامة والقيم الأسرية في المجتمع أو ما هي الألفاظ التي لا تليق التي استخدمتها. لا شك في أن النقابات المهنية مطالبة بالتعامل بحسم مع أي مخالفات لأعضائها تمس قواعد وآداب المهنة، وأن تتخذ ما يلزم من إجراءات عقابية وتأديبية للدفاع عن المهنة وعن سمعة المشتغلين فيها، ولكن في المقابل لا بد من لأن تكون هذه المخالفات منصوص عليها بوضوح في مدونة السلوك الخاصة بالمهنة، وهي أمور ستتضح بعد جلسة الاستماع التي ستعقدها نقابة الأطباء للدكتورة وسام. لا نعرف ما إذا كانت مدونة السلوك هذه أو آداب المهنة قد جرى تحديثها لتبين كيفية استخدام الطبيب لوسائل التواصل الاجتماعي فيما يخص مهنته.
ثقوب في الضمير العام للمجتمع
في عام 1993، نشر الدكتور أحمد عكاشة، أستاذ الطب النفسي، الذي ترأس الجمعية الدولية للطب النفسي، كتاباً بعنوان "ثقوب في الضمير المصري: نظرة على أحوالنا"، والذي قال في مقدمته إنها شهادة حرص على أن يقولها بصدق وأمانة على هموم يعاني منها المجتمع المصري. وعلى الرغم أن الكتاب تناول مشكلات عويصة في سلوك الأفراد وفي المجتمع إلا أنه لم يحدث الضجة التي أحدثها فيديو الطبيبة وسام، ربما لاختلاف الوسيط، الكتاب ووسائل التواصل الاجتماعي. ربما يكون السؤال الذي ينبغي التوقف عنده ليس طرح القضية من خلال إحدى وسائل التواصل الاجتماعي، فكم من القضايا الأكثر خطورة التي تطرح من خلال هذا الوسيط وتمر دون أن تثير هذه الضجة. السؤال هنا يتعلق بدلالة عدد المشاهدات التي حققها الفيديو والتي زادت عن خمسة ملايين مشاهدة؟ وهو سؤال يتعين علينا التوقف عنده وفحصه وفحص دلالته، كذلك علينا أن نحلل بدقة ردود الفعل المتباينة من جمهور المتابعين ومعرفة الاتجاهات العامة في المجتمع، وهل يعبر هذا الاهتمام الكبير بالفعل عن مشكلة أخلاقية متفاقمة في المجتمع؟ بالطبع يسبق هذا تحقيق يتعين على الهيئات التي سارعت لتوجيه اتهامات للطبيبة والمطالبة بمحاسبتها فيما ذكرته من وقائع، وهل هذه الوقائع متكررة في أماكن أخرى وتمضي دون أن يعلنها أحد للرأي العام حرصا على السلامة الشخصية أو احتراماً لآداب المهنة.
من المؤكد أن هناك تغيرات حدثت في العلاقات الاجتماعية في السنوات الثلاثين الأخيرة نتيجة لثورة الاتصالات وانفتاح الأجيال الأصغر سناً على ثقافات متباينة، كان لها تأثير على تغير منظومة القيم الاجتماعية، وهناك دراسات عديدة تناولت هذه القضية، وربما ما لم تلتفت إليه الطبيبة وسام في تعليقاتها هي التمييز بين التعامل مع مشكلة اجتماعية مفترضة وبين إسقاط أحكامها الأخلاقية الخاصة على هذه المشكلة، لكن الأخطر في رد الفعل العام المنكر لوجود مشكلة دون تبين مدى صحة ما قالته الطبيبة والميل إلى الرفض بزعم أن هذه ليست أخلاقنا أو أن فيما قالته إساءة لقيم الأسرة المصرية أو تشهير بالنساء. هناك مشاكل اجتماعية كثيرة موثقة في دراسات كان يجريها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، الذي تراجع دوره بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة لأسباب غير معلومة. وهناك مشكلات أخرى ترصدها منظمات المجتمع المدني ودراسات أكاديمية أخرى. الأهم في كل هذا هو كيف نتعامل بأسلوب علمي وبطريقة منهجية منظمة مع ما طرحه الفيديو الخاص بالطبيبة المصرية، بغض النظر عما أي مخالفات محتمل أنه ارتكبتها والمهم أيضاً ألا يكون هناك في محاسبتها بسبب أن القضية أصبحت قضية رأي عام.
والمهم أن ندرك أن إنكار وجود أي مشكلة لا يعني عدم وجودها، بل الإنكار قد يكون سببا مباشرا في تفاقم المشكلة وخروجها عن السيطرة، وأن الاعتراف بوجود المشكلة هو بداية الطريق الصحيح لحلها. ومن المهم أيضاً ألا نتخذ موقفا قاسياً من الطبيبة ونعاملها بالطريقة التي عومل بها الطفل الذي قال "إني أرى الملك عارياً" فقد يكون فيما ذكرته جانب من وقائع وحقائق تحدث أمام أعيننا لكننا لا نريد أن نراها، لأننا عاجزون عن مواجهتها.
-------------------------------
بقلم: أشرف راضي